“فارس” شابٌ كان له من اسمه نصيب
سلمى جمال
حالةٌ من الدهشة والإيمان القوي تنتابك حينما تتحدث إليه؛ لتشعُر أن ما تمر به مجرد أضحوكة هزيلة، إنه الشاب اليمني “فارس البكري” ابن الحادي والعشرين عامًا، الذي لم تكسره الحياة لحظة، رغم عدد الصفعات التي لطمته بها ومضت كأن شيئًا لم يكن، حتى بكى كل شيء حوله ونزف حزنًا؛ فبقى هو مثابرًا كعادته..طموحًا بأنه قد يغير مجرى الحياة يومًا ما.
حلمٌ تقليدي لم يكتمل
كانت طفولته البسيطة التي رسمت ملامحها في مدينة “صنعاء” تتلخص أقصى أحلامها في أن تجعل من صاحبها لاعب كرةٍ محترف، حيثُ رغب بلعب الكرة كغيره من الأطفال، وبرع فيها كما يجب أن يكون، ولما لا وقد زار نواديَ عدة، وكاد أن يقترب من مقعد المنتخب اليمني الأولمبي.
لكن ساعة القدر دقت بأن يرحل عن تلك المدينة التي تشربت حماس هوسه بالساحرة المستديرة، التي كرس لها ما ينال من حبه رغم تفوقه الدراسي الملحوظ، فمضى عن تلك المدينة وهو لا يعرف ماذا يُخبئ له القدر في قادم عمره، فقد كان كل ما يعرفه حقًا هو حبه لتلك اللعبة؛ لذا حاول مرارًا وتكرارًا أن يظل يُنتسب إليها جسدًا وروحًا، حتى أدرك أنها لن تشفع له في بلاده، التي علم جيدًا مدى حاجتها لفتية قوية توقظها من سبات الجهل والضياع؛ ولأن الشغف لم يتركه لحظة بدله بشيء أنبل ذي لهجةٍ وطنية، فإن كانت الكرة لغة السلام؛ فحب الوطن لغة الانتماء.
حادثة شكلت هوية قوية لصاحبها
امتلأ “فارس” رغبةً بخدمة بلده، ليُصدر هو وعدد من أصحابه أول جريدة تربوية توعوية في اليمن، وأطلقوا عليها “الصرح” التي كانت على نطاق مدرسته، ليصبح الهدف أكبر وأكثر تحديًا بأن تُوزع على نطاق عدن بأكملها، وبالفعل كان على القدر أن يستجيب لإيمانهم بالتغيير؛ حتى طُبعت 50 ألف نسخة في أول عدد على نفقتهم الخاصة، حملت كل طبعة أملًا ذا هدف نبيل؛ فعادت إليهم بنجاح تحدثت به المدينة بأكملها.
أراد بعض فاقدي هوية الأمانة أن يجعلوا من “الصرح” ونجاحها حقًا مكتسبًا، يُنتسب إليهم زورًا، ولكن إصرار هؤلاء الشباب أكمل بهم ما أرادوا، وحتى بعد أن ضرب الإرهاب الأسود اليمن، وتحطمت آمال الكثير وفر العديد، ثبت فارس مع زملائه، ليُأسسوا مركزًا إعلاميًا يكون سلاحهم والمتحدث الرسمي لحلمهم النبيل.
وتمكنوا من خلاله إصدار أكثر من عمل تليفزيوني “كمأساة ناجح” و”بالمقلوب” وغيرهم، حتى كان لفارس نصيبه الخاص من التحدي في عام 2015، حينما ذهب لأداء بعض أعماله برفقة زميله وإذ بإنفجار يقع فيصيبه، واضعًا بصمته التي أعادت تشكيله من جديد.
إيمان وصبر يكسران العجز
كانت إصابته عنيفة ذات طابعٍ محبط في الشفاء، فقد كان مصابًا بشلل نصفي وجسمه ينزف نيابةً عن تحطم داخله، ولكن أي إحباطٍ هذا يتحدث إلى شاب كافح منذ صغره ليأتي محاولة كسره بأن قدماه لن تذوق صلابة الأرض ثانية، ولكنه استسلم أمام صلابته؛ فقد تشبع بالإيمان الكامل بأنه سيتخطى ذلك، وبالفعل تمكن من الوقوف، بعد رحلة علاج قضاها في الهند وقد كان وقوفًا بـ”عكازين” كُتب لهما أن تصطحبهما يد شابٍ عاند الحياة، فأخضعها.
ضربة قاسية تأخذ ضلعه
“ولدت من جديد” هكذا وصف فارس عودته من حادث الانفجار، الذي أعلن لنا عن ميلاد شخصية أقوى تصر على حلمها، وكأنه ولد ومطبوع داخله، بأن يكن بارًا بوطنه بكل ما أوتي من القوة، فقرر تعلم الإنجليزية حتى أتقنها بـ'”ماليزيا”.
وفي تلك الفترة نمى بداخله حبًا صادقًا لابنة خاله الذي بلغ شغفه بها أن خطبها مبكرًا، حتى لا تكن من نصيب غيره، وبالفعل لم تكن من نصيب غيره كما لم تكن من نصيبه أيضًا؛ فقد فارقت الحياة في حادث أبكى قلبه وكسر ضلعه الذي ظن بأن يكون رفيقه، فقد كانت ضربة قاسية تختبر صبره وإيمانه الذي أخبره بأن من نفارقهم نهاديهم بالدعاء، وبإكمال ما جئنا لأجله في هذا العالم.
فراق آخر يشكل صدمة؛ ليخلق قوة
استمر فارس بإصرار يزداد كل لحظة يضربه فيها القدر، فجاء إلى مصر؛ ليدرس الإعلام ولظروف خارجة عنه تأخر عامًا، حتى التحق في العام التالي، وهناك في كليته كانت حقًا بداية جديدة كما لمحت كلماته، بدايةً حاوطته الغربة؛ فهو لم يكن ليعرف أحد سوى صديق يمني له؛ حتى لفت إصراره العديد ممن أصبحوا رفقاء له، وعند تلك اللحظة كان على القدر أن يخبره بأن رائحة الجنة التي تجسدت في والدته قد اكتفت من جعله منعمًا بها؛ بأن أمر الله برحيلها عن عالمه، وكأنها تيقنت بأن ابنها الأصغر سيقوى على مواجهة الحياة وحده، بعدما مر بكل تلك العثرات ليخرج منها قويًا كعادته.
رغم أن فراقها كان بمثابة صفعة لم تُمح آثارها إلى الآن، ورغم أنه يمشي برفقة عكازيه، يكمل فارس رحلته حاليًا بنصف قلب، ولكنه نصف ممتلأ بكل ما يجعل الحياة أكثر قيمة، ولأن له في الصبر درسًا أتقنه؛ اختتم كلماته بـ”إن الصبر أهم شيء، فالصبر ثم الصبر ثم الصبر والإيمان”.